أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية

أبو جعفر المنصور هو الخليفة العشرون لنبي الله محمد صلى الله عليه وصلم، كما يعتبر ثاني خلفاء الدولة العباسية والمؤسس الحقيقي لها، فقد استمرت من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر بعد سقوط بغداد على يد التتار، وكان أبو جعفر المنصور أحد أقوى حكام الخلافة العباسية، فوضع الأسس التي استمرت عليها الدولة لقرابة الخمسة قرون، لذلك، دعونا نستعرض لكم أهم المعلومات حول أبو جعفر المنصور، من سيرته الذاتية إلى أعماله وانتصاراته.

أبو جعفر المنصور منذ نشأته حتى تولّيه الخلافة

أبو جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي ولد في عام 713 ميلاديًا و95 هجريًا بجنوب الشام، تحديدًا بقرية الحميمية المتواجدة بالمملكة الأردنية حاليًا.

تربى المنصور على العلم والفصاحة والشعر والنثر، فكان محمد بن على والده هو منظم الدعوة العباسية، التي انتقلت من السر إلى الجهر واستمرت حتى وصلت في النهاية إلى حكم البلاد العربية والإسلامية، حيث كانت الحركة في بادئ الأمر تأخذ الطابع السري، فكان يتم اختيار أعضائها ومناصريها التي تحتويها بعناية تامة ودقة متناهية، كما اختارت الحركة أن يتم نشر الدعوة في مناطق معينة، فاستقروا على نشرها بالحميمية وخراسان والكوفة.

في عام 749 ميلاديًا و132 هجريًا، نجح العباسيون في دعوتهم بعدما انتصروا على الدولة الأموية وأطاحوا بها، وصار أبو العباس عبد الله السفاح في سن السادسة والعشرين، هو أول خليفة عباسي والخليفة التاسع عشر للمسلمين.

كان لأبي جعفر المنصور دورًا في خلافة أخيه أبو العباس، فكان يساعده في محاربة الأعداء وإدارة شئون الخلافة، فأثبت كفاءته العالية في كلاهما، مما جعله يتولى الخلافة بعد مرض أخيه في عامه الواحد والأربعين بسنة 754 ميلاديًا و136 هجريًا.

إقرأ أيضًا: معني اسم جعفر وحكم التسمية به في الاسلام وصفات صاحب في الاسم

أبو جعفر المنصور وتمرد عمه عبد الله

تولى أبو جعفر المنصور الخلافة العباسية في بداياتها، فلم تكن الخلافة بأفضل أحوالها نظرًا لحداثتها، فكان الأعداء يسعون للإطاحة بها والمناصرون يسعون للحصول على المناصب الكبرى بها، فكانوا ينتظرون مكاسبهم منها، كما كان يتطلع أقارب أبو جعفر المنصور للحصول على الخلافة بدلًا منه، لاعتقادهم بأنه لن يستطيع إدارة شؤون البلاد، وأنهم أكثر استحقاقًا منه في تولي الخلافة، فكان يجب على أبي جعفر المنصور إيجاد الحلول الحاسمة لكل تلك المشكلات، حتى لا تنهار الدولة قبل تأسيسها الحقيقي.

بالرغم من وصايا أبو العباس السفاح لأخيه أبو جعفر المنصور بتوليه الخلافة، إلا أن عمهم عبد الله بن على قد كذب هذه الوصاية، وزعم أنه هو من تم توصيته على تولي الخلافة، لذلك امتنع عن مبايعة المنصور، وأعلن تمرده، وشرع في تكوين جيش للإطاحة بأبي جعفر المنصور، والذي بدوره رفض في البداية سفك الدماء، حيث حاول حل الموقف بالطرق السليمة، فأرسل إلى عمه عبد الله بن على دعوة للصلح والتوقف عن التمرد، وإعلان الطاعة لأبي جعفر المنصور، ولكن محاولاته باءت بالفشل، فقد رفض عمه الامتثال له واستمر بعصيانه، مما لم يترك أي حل آخر للمنصور إلا الحرب، فكون جيشًا كبيرًا واضعًا على رأسه أبو مسلم الخرساني، وأمره بالذهاب والقضاء على جيش المتمردين، وهذا ما فعله أبو مسلم الخرساني بالفعل، فقد قضى عليهم تمامًا بعد العديد من المعارك القوية، مما حطم آمال عبد الله بن علي على تولي الخلافة، ففر هاربًا إلى أخيه سليمان الذي كان واليًا بالبصرة، فقبض عليه هناك وظل بالسجن حتى وفاته.

دهاء أبو جعفر المنصور مع أبي مسلم الخرساني

بعد تخلصه من عمه عبد الله بن علي، عمل أبو جعفر المنصور على التخلص من أبي مسلم الخرساني، وذلك لما صار عليه أبو مسلم الخرساني بعد الانتصارات الكثيرة التي حققها وسفكه المستمر للدماء، فقد كان هو صاحب الفضل الأكبر في نجاح الدولة العباسية في البداية، والانتصارات التي حققتها الخلافة، مما جعل الخشية تملأ عقل أبا المنصور، فخشى العتاد والجيش الكبير الذي كان تحت إمارة الخراساني، والقوة التي ظلت بالتزايد لفترة طويلة، كما أنهما لم يكونا أبدًا على وفاق.

استغل أبو جعفر المنصور الفرصة حين آتته، وهنا يظهر دهاء أبو جعفر المنصور، فاستطاع سحب أبا مسلم الخرساني إليه وحده دون حاشيته وأنصاره بعدما أمنه على حياته، دبّر أبو جعفر المنصور له المكيدة فقتله بعام 755 ميلاديًا و137هجريًا، وعندما ثأر عليه الخراسانيان والفرس ألقى خطبته الشهيرة بالمدائن، فقال: “أيُّها الناسُ، لا تَخْرُجُوا مِن أُنْسِ الطَّاعَةِ إلى وَحْشَةِ المَعْصِيَةِ، ولا تُسِرُّوا غِشَّ الأَئِمَّةِ؛ فإِنَّه لم يُسِرَّ أحدٌ قطُّ مَنْكَرَةً إِلاّ ظَهَرَتْ في آثارِ يدِهِ، وَفَلَتَاتِ لِسانِهِ، وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ، وَأَبْدَاها اللهُ لإمامِهِ بإِعْزَازِ دينِهِ، وإعلاءِ حَقِّه، إِنَّا لن نَبْخَسَكم حقوقَكم، ولن نَبْخَسَ الدِّينَ حَقَّه عليكم، إِنَّه مَن نَازَعَنَا عُرْوَةَ هذا القميصِ أَجْزَرْنَاهُ خَبِيَّ هذا الغِمْدِ، وَإِنَّ أبا مسلمٍ بَايَعَنَا وَبَايَعَ الناسَ لنا على أَنَّه مَن نَكَثَ بنا فقد أباحَ دَمَهُ، ثمّ نَكَثَ بِنَا فَحَكَمْنَا عليه لأنفسِنا حُكْمَه على غيرِه لنا، ولم تَمْنَعْنَا رِعايةُ الحَقِّ له مِن إِقامَةِ الحَقِّ عليه”.

دهاء أبو جعفر المنصور مع العلويين

تعد ثورة العلويين أو ثورة محمد النفس الزكية هي أخطر الثورات التي واجهت الدولة العباسية في بداياتها، فقد كان محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية يخطط للثورة على أبي جعفر المنصور، فظل يدس أفكاره برعاية الدولة العباسية سرًا وينشر دعوته بينهم حتى ينقلبوا على العباسيين.

رفض محمد النفس الزكية مبايعة أبي العباس السفاح، ومن بعده أخيه أبي جعفر المنصور، اعتقادًا منه بأحقيته وباقي البيت العلوي في خلافة المسلمين، وقد علم أبو جعفر المنصور نواياه، فعمل لفترة طويلة على إيجاده وإيجاد كبار الدعاة العلويين ولكنه فشل، حتى طلب مساعدة والي المدينة الجديد للوصول إليه، فاستطاع الوالي الجديد القبض على عبد الله بن الحسن والد محمد النفس الزكية وقام بتهديده، كما قبض على واحد من أقاربه، وأرسلهم مكبلين إلى الكوفة، فأظهر محمد النفس الزكية دعوته أمام الملأ، وأعلن نفسه إمامًا على مكة والمدينة وأيد الناس إمامته، ولقبوه بأمير المؤمنين وأطلقوا عليه اسم النفس الزكية.

نجحت بذلك حيلة أبو جعفر المنصور، حيث علم مكان تواجد محمد النفس الزكية، فأرسل إليه جيشًا يترأسه عمه عيسي بن موسى، والذي استطاع هزيمة وقتل محمد النفس الزكية بعام 762 ميلاديًا و145هجريًا، كما انتصر على أخيه إبراهيم أيضًا في معركة دارت بين الكوفة وواسط، وبذلك انتهت مقاومة محمد النفس الزكية للدولة العباسية.

أهم أعمال أبو جعفر المنصور

بعد الانتهاء من الصراعات الداخلية العديدة، اهتم أبو جعفر المنصور بتطوير البلاد الإسلامية، فقام ببناء مدينة بغداد التي ظلت عاصمة للدولة العباسية لوقت طويل، وتظل حتى الآن عاصمة دولة العراق، وكذلك بيت الحكمة، الذي طور العلوم العربية وكان بداية العصر الذهبي للفكر العربي، لذلك دعونا نستعرض أهم التفاصيل عن إقامتهما.

بيت الحكمة

أهتم أبو جعفر المنصور بالعلوم المختلفة والمتنوعة، فاهتمامه بالعلماء المسلمين وبيت الحكمة هو أكبر دليل على ذلك، فقد قام بإقامة بيت الحكمة بقصره في بغداد حتى يصبح المكان الخاص بالترجمة للغة العربية من اللغات الأخرى كالهندية واليونانية، كما قام بالإشراف عليه بشكل مباشر، وعندما أرسل له الإمبراطور الروماني كتبًا يونانية في الطب والحساب والهندسة والفلك حسب طلب أبو جعفر المنصور، ترجمت هذه الكتب فورًا إلى العربية للاستفادة القصوى من المعلومات التي تقدمها.

في عهد الخليفة المأمون وهارون الرشيد، ازداد نشاط بيت الحكمة بشكل كبير، فقد اهتم به الخليفة المأمون اهتمامًا بالغًا، فصرف عليه الكثير من المال والوقت، كما كان يشرف عليه شخصيًا يتخذ القرارات الهامة به، فاستمر بيت الحكمة منارة للعلم في العالم الإسلامي حتى قدوم التتار في القرن الثالث عشر وتدميرهم لبغداد.

بناء بغداد في العصر العباسي

أراد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بناء عاصمة جديدة للدولة الإسلامية، رغبةً منه في بُعد العاصمة عن المدن كثيرة التمرد، وكانت بغداد الواقعة على ضفاف نهر دجلة هي اختياره الأمثل، فقام بوضع أول أحجارها عام 762 ميلاديًا و145هجريًا، فاحتاجت المدينة في فترة البناء للعديد من المهندسين والعمال البنائين والصناع، حتى انتهوا تمامًا من بنائها بعد 4 سنوات كاملة.

انتقل مقر الحكم إلى بغداد، وذهب الخليفة للعيش بها، جاعلًا منها عاصمة للخلافة الإسلامية، كما لقبها بمدينة السلام، حيث كان يمر عبرها نهر دجلة الذي يُسمى بنهر السلام، كما أنه عمل على توسيعها بعد سنتين فقط من الانتهاء من بنائها، فبنى مدينة الرصافة بالجانب الشرقي منها، كما أقام بها الأسوار والمساجد وقصرًا لولي العهد، فقد رغب في جعلها مقرًا لابنه ولي العهد المهدي، وأدى اهتمامه الكبير بها إلى توافد المهاجرين إليها واكتظت المدينة بالسكان وعمرت.

إقرأ أيضًا: مقال عن توسعة الحرمين الشريفين وجهود الدولة السعودية

كيف حكم أبو جعفر المنصور

بعد توليه حكم الدولة العباسية، ظهرت الصفات الحسنة بأبي جعفر المنصور، فقد تمتع بشخصية قوية تسعى للخير أينما وجد، فيشهد التاريخ على ما قدمه للخلافة العباسية، لذلك دعونا نستعرض أهم صفات حكمه الذي استمر لمدة 22 عامًا.

أبو جعفر المنصور ومال الدولة

لم يكن أبو جعفر المنصور رجل لهو، فاتخذ منصبه جديًا، وكان يُقّدر مكانته والمسؤولية التي تقع على عاتقه لكونه خليفة المسلمين، فانصرف عن الرفاهية واللهو واستغلال النفوذ والسلطة، فكان يتقي الله في راعياه ويكرس حياته لخدمة الدولة.

كما أنه لم يكن مسرفًا في ماله ومال المسلمين، فعلم قيمة المال وحافظ عليها، وأنفقها بحرص على الناس، كما اهتم بزيادة دخل الدولة، فقد ترك حياة الترف، مما جعل بعض المؤرخين يعتقدون أنه قد اتصف بالبخل، ولكن يمكن دحض هذا الاعتقاد بكل سهولة، فلم يكن أبو جعفر المنصور بخيلًا على المسلمين في أموالهم، فقد أنفق مال الدولة على المسلمين، ولم يتوانى لحظة في مساعدة المحتاجين والعمل لتحسين أوضاع الناس.

اهتمام أبو جعفر المنصور بولاياته

كان أبو جعفر المنصور دائمًا ما يهتم بالمدن والولايات التابعة للخلافة، فكان دائم البحث عن الأكفاء لكي يوليهم المهام بتلك المدن والولايات، كما كان يصله كافة الأخبار عن ولاياته من قبل ولاة البريد، التي كانت تتمحور مهمتهم في تبليغ الخليفة بشكل مستمر عن أوضاع الدولة السياسية والاجتماعية والقضائية كأحكام القضاء، واقتصادية كأسعار الطعام، مما جعله ملمًا بكافة التفاصيل الكبيرة والصغيرة، فوطد بذلك سلاسل حكمه بكل بقاع الدولة العباسية.

أبو جعفر المنصور والبيزنطيين

عندما تولى أبو جعفر المنصور حكم الخلافة العباسية، كانت حدود الخلافة ممتدة من الهند حتى ساحل المحيط الأطلنطي، لذا لم يهتم كثيرًا بتوسيع حدود الدولة، فرأى أن توسيع الحدود قد يؤثر سلبًا على استقرار الدولة، وقد يزيد من الثورات الداخلية واضطراب حياة المسلمين بالبلاد وتعرضهم لأخطار الحروب.

بالرغم من رغبة أبو جعفر المنصور في السلم، بدأت الدولة البيزنطية في مهاجمة الخلافة العباسية وقامت بالإغارة على مدنها والقرى بها، فاضطر المنصور إلى مهاجمة البينزطيين للدفاع عن أراضيه، وأستمر الوضع لفترة حتى هدأ بعام 766 ميلاديًا و149هجريًا، حيث دعا ملك الدولة البينزطية للصلح، واستجاب المنصور لدعوته وتوقفت الدولة البيزنطية في مهاجمة أراضي المسلمين.

أساليب حكم أبو جعفر المنصور

طوال فترة حكمه، سعى  أبو جعفر المنصور إلى التخلص من أعدائه داخل البلاد، وكل شخص رغب في هز استقرار الدولة والثورة عليه، كما أشتهر بشدته في المعاملة، ولكن بالرغم من ذلك، كان يتقبل النقد من العلماء والمقربين منه، فتعد لقاءاته مع عمرو بن عبيد وابن أبي ذئب وسفيان الثوري وغيرهم خير دليل على ذلك، وقد أتفق العلماء والمؤرخون أنه كره أثنان من كبار الأئمة في الدين الإسلامي، وهما مالك بن أنس وأبي حنيفة النعمان، فقد أعتقد أنهما كانا يدعمان العلويين في ثورتهم على الدولة العباسية.

استمرت فترة حكم أبي جعفر المنصور لحوالي 22 عامًا، قام فيهم بتثبيت أقدام العباسيون في حكم تولي الخلافة، وبناء دولة قوية استمرت لمئات السنين شامخة ترفع راية المسلمين عاليًا وتدافع عن عرضهم وأملاكهم حتى سقوطها على يد التتار بالقرن الثالث عشر وسوقط بغداد وتدمير تلك القبائل الهمجية لبيت الحكمة الذي أستمر لمئات السنين منارة تضيع العلوم وحافظة للتاريخ الشرقي.

إقرأ أيضًا: عبد الله بن عمر بن الخطاب وفضائل وصفات عبدالله بن عمر بن الخطاب

وفاة أبو جعفر المنصور

توفى أبو جعفر المنصور بعمر الثالثة والستين بعام 775 ميلاديًا و158هجريًا، حين ذهب لأداء فريضة الحج فمرض مرضًا وأشدت عليه ، وتوفي على أبواب مدينة مكة قبل أن ينال الحج إلى بيت الله الحرام، وقبل مماته قد أوصى أبنه وولي عهده المهدي بأن يعطي للناس حقوقها وأن لا يبخل على الجند برواتبهم، وذكره قبل موته قائلًا: “إنني تركتُ خزان بيت مال المسلمين عامرة، فيها ما يكفى عطاء الجند ونفقات الناس لمدة عشر سنوات”.

في النهاية.. وبعدما نكون قد انتهينا من حديثنا عن سيرة أبو جعفر المنصور الذاتية، والرحلة التي خاضها بعالمنا منذ ولادته حتى وقاته، وبعدما تحدثنا كذلك عن أهم الصفات التي ميزت حكمة للخلافة العباسية، نتمنى أن نكون قد ساعدناكم في التعرف بشكل كافي عن ثاني خلفاء الدولة العباسية، وأن نكون قد أثرينا معلوماتكم عن بعض من الأحداث والوقائع التاريخية الإسلامية التي قد تساعدنا في التعلم منها بالمستقبل.

قد يعجبك أيضًا