احبب من شئت فإنك مفارقه

احبب من شئت فإنَّكَ مفارقُهُ هذه الجملة يتخذها الكثير من البشر حكمة في حياتهم فيحبون هونًا ولا يتعلقون بأحد أو شيء لأن في النهاية مهما حدث لابد أن يأتي الفراق، حتى وإن لم يتفرقوا في الأفكار أو الأفعال والظروف كانت ممهِدة لحياة سعيدة، سيأتي الموت في النهاية فيأخذ منا من نحب، هذه هي سُنة الله في الأرض، على أمل اللقاء في الآخرة إن شاء الله.

احبب من شئت

هي جملة مقتطفة من حديث سيدنا جبريل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد رُوي عن سهيل بن سعد الساعدي قال:

“جاءَ جبريلُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: يا مُحمَّدُ، عِش ما شئتَ فإنَّكَ ميِّتٌ، واعمَل ما شئتَ فإنَّكَ مَجزيٌّ بِهِ، وأحبِبْ مَن شئتَ فإنَّكَ مفارقُهُ، واعلَم أنَّ شرَفَ المؤمنِ قيامُ اللَّيلِ، وعزَّهُ استغناؤُهُ عنِ النَّاسِ”.

إقرأ أيضًا: اتقوا النار ولو بشق تمرة شرح الحديث الشريف والأمور المستفادة منه

تخريج حديث احبب من شئت

ورد عن هذا الحديث الكثير من الروايات الضعيفة والموضوعة والزيادات على متنه ومواقع شبكة الإنترنت المهتمة بعلوم الحديث والشريعة تذخر بمثل هذه الروايات
حتى أنه تم ذكره في حلية الأولياء لابن الجوزي برقم 408/2 بصيغة موضوعة، لكن أصح رواية وصلت إليها هي بالمتن كما ورد سابقا وتخريجه هو:

الراوي: سهيل بن سعد الساعدي

المصدر: كتاب الترغيب والترهيب من الحديث الشريف 294/1.

المُحَدث: صاحب كتاب الترغيب والترهيب الحافظ عبد العظيم المنذري.

الحُكم فيه: إسناده حسن.

تخريجه من أمهات الكتب:
المعجم الأوسط للطبراني برقم 2478 (اللفظ له).
شعب الإيمان لأحمد بن حسن البيهقي برقم 1054
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصفهاني 253/3.

حَسنه الهيثمي في كتاب (مجمع الزوائد) والألباني في (السلسلة الصحيحة).

وقفات مع حديث عِش ما شئتَ فإنَّكَ ميِّتٌ

نرى في هذا الحديث مثل الأحاديث القدسية* أن سيدنا جبريل هو الذي يتحدث موجه كلامه للنبي – صلى الله عليه وسلم – وناداه باسمه وليس بصفة النبوة فلم يقُل له يا رسول الله أو يا نبي الله، وإنما قال يا محمد وهذه يدلنا على أن ما سيأتي لاحقًا ليس لسيدنا محمد وحده وإنما جاء جبريل ليعلمنا نحن والقول عام لكل المؤمنين، تذكرة وموعظة لكل من آمن برسالته.

كلمات معدودة كافية للمؤمن شافية للقلوب أوصى بها سيدنا جبريل في خمس وصايا سنتحدث عنهم ببعض التفصيل:

عِش ما شئتَ فإنَّكَ ميِّتٌ

يذكرنا سيدنا جبريل بالحقيقة الوحيدة في الحياة وهي الموت مهما طالت هذه هي النهاية المحتومة كما قال الله تعالى في محكم التنزيل: ” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” (آل عمران158).
وقال: ” إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ” (الزمر 30،31)

من فوائد وصية جبريل للنبي

  • أن يعي المسلم ان الموت قد يأتيه بغتة دون سابق إنذار من مرض وخلافه والعمل لمثل هذه اللحظة
    قال الله تعالى: ” وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” (المنافقون 10،11).. فالإنسان عندما يموت يتمنى ولو لحظة من هذه الحياة ليتصدق من ماله الذي تركه ولم يأخذ معه شيء للقبر، وأن يكون من عباد الله الصالحين.
    لكن لا يعود أحد من الموت.. هذه الفرصة إذا انتهت جاء وقت الحساب، فلنعمل لمثل هذا اليوم من الآن حتى نكون من الذين قال الله فيهم: ” مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (العنكبوت 5).

إقرأ أيضًا: اللهم اهدنا فيمن هديت ما شرح هذا الحديث؟

اعمَل ما شئتَ فإنَّكَ مَجزيٌّ بِهِ

أي أعمل أي شيء من الأعمال خيرًا كانت أم شرًا، في رضا الله أو سخطه؛ سيأتي لك الموت وتلاقيه وبعده سوف تُجزى عما عملت، وكتابك مسجل فيه كل صغيرة وكبيرة.. قال الله تعالى: ” وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ” (القمر 52،53)
فإذا كان عمل ابن آدم خيرًا في الدنيا سيجد خيرًا وزيادة في الآخرة بإذن الله، وإذا كان عمله دون ذلك فلا مُلام على هذا سوى نفسه قال الله تعالى في كتابه الكريم: ” يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ” ( آل عمران 30)..

يتمنى مرتكب السوء يوم الحساب أن يكون بينه وبين عمله أجلًا آخر أو لا يلقاه أبدًا هذا ما يتمناه على عكس حاله في الدنيا فقد كان يستلذ بذاك العمل.

من فوائد الوصية “اعمَل ما شئتَ فإنَّكَ مَجزيٌّ بِهِ”

كما يقول الله تعالى في ختام الحديث القدسي* الذي رواه أبي ذر الغفاري عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ” يَقولُ اللهُ تعالى: يا عِبادي، إنِّي حرَّمْتُ الظُّلمَ على نفْسي، وجعَلْتُه بينَكم مُحرَّمًا؛ فلا تظالَموا.. يا عبادي، إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم ثمَّ أُوفِّيكم إيَّاها، فمَن وجَدَ خيرًا فلْيَحْمَدِ اللهَ، ومَن وجَدَ غيرَ ذلك فلا يَلومَنَّ إلَّا نفسَه” (ابن تيمية في مجموع الفتاوى 78/10).
يقول الله تعالى: إن أعمالكم أحفظها وأكتبها عليكم ثم يوم القيامة توفى كل نفس ما كسبت على الكمال والتمام فمن وجد خيرًا في أعماله فليحمد الله على توفيقه إياه إلى عمل الخير لأنه هو الهادي ومن وجد غير ذلك (هو الشر ولم يصرح به للتحقير من شأنه ولتنفير المؤمنين عنه) فلا يلوم إلا نفسه على هذه الأفعال لآنها صادره عن نفسه بمحض إرادة حرة.

ويوم القيامة تسود وجوه الذين ظلموا أنفسهم وتبيض وجوه المتقين، وكيف لا تبيض وجوههم والله تعالى من فوق سبعة سموات وعدهم بالخلود في رحمته قال: ” يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (آل عمران).

جعلنا الله وإياكم ممن تبيض وجوههم.

أحبِبْ مَن شئتَ فإنَّكَ مفارقُهُ

أي أحبب من تشاء من البشر في الدنيا أحب أخاك فإنك ستفارقه، أحب أبويك فإنك سوف تفارقهما، أحب زوجتك وأولادك فإنك سوف تفارقهم بموت أو بغيره.

سترحل وحيدًا من هذه الدنيا كما جئتها وحيدًا، ستوضع في القبر وحدك دون رفيق ولا مؤنس.

ستغادر دارك التي أحبتها لدار أخرى مظلمة مُعدة لك إلى يوم القيامة.. فالمؤمن يوطن قلبه على الفراق ويشغل باله بعمله ذاك الرفيق الذي سيذهب معه إلى القبر.

عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول لله – صلى الله عليه وسلم: “يتبعُ الميِّتَ ثلاثٌ فيرجِعُ اثنانِ ويبقَى واحِدٌ يتبعُه أَهلُه ومالُه وعملُه فيرجعُ أَهلُه ومالُه ويبقى عملُهُ” (البخاري 6541 ومسلم 2960).. نعم العمل هو الرفيق الوحيد الذي سيدخل مع ابن آدم القبر، وهو الرفيق الذي يجب أن يهتم به المؤمن حقًا.

عن عبد الله عباس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “اسْتَغْنُوا عن الناسِ ولو بشَوْصِ السِّوَاكِ” (مسند عمر للطبري 27)

اعلَم أنَّ شرَفَ المؤمنِ قيامُ اللَّيلِ

أجمل لحظات في يوم المسلم هي في جوف الليل؛ عندما يقف بين يدي ربه فقيام الليل هو مدرسة بذاته تعلم المؤمن الصدق والإخلاص وتربية النفس، فلا يطلع عليهم في تلك اللحظة إلا الله تعالى هو من قال عنهم من فوق سبع سموات: “إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” السجدة12:17.

قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: ” أَفْضَلُ الصِّيامِ، بَعْدَ رَمَضانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ، وأَفْضَلُ الصَّلاةِ، بَعْدَ الفَرِيضَةِ، صَلاةُ اللَّيْلِ” رواه أبو هريرة (صحيح مسلم 1163).. أي أن أفضل الصلاة بعد أداء الفرائض الخمس، هي الصلاة في جوف الليل لأنها صلاة أبعد ما تكون عن الرياء والأقرب إلى الإخلاص.

فمن أراد الشرف والمقام الرفيع في الدنيا والآخرة عليه بقيام الليل بدوام الصلاة وذكر الله وتلاوة القرآن، كما قال لنا نبينا الكريم – عليه أفضل الصلاة والسلام – عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ في الجنَّةِ غرفًا يُرى ظاهرُها من باطنِها وباطنُها من ظاهرِها أعدَّها اللهُ لمَنْ أطعم الطَّعامَ وأفشى السَّلامَ وصلَّى بالليلِ والنَّاسُ نيامٌ” (الالباني في صحيح الترغيب 946).
أي أن للمصلين في الليل مكانة مختلفة داخل الجنة عن باقي المؤمنين لعملهم الذي عملوه في الحياة الدنيا.

هي أعظم الأعمال حين يقف المؤمن وحده لا يراه أحد يصلي لله وحده دون رياء لأحد يتطلع ويرغب فيما وعدنا به الرسول الكريم في حديث جبير بن مطعم: “قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ” ينزلُ اللهُ في كلِّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا فيقولُ: هل من سائلٍ فأُعطِيَه؟ هل من مُستغفرٍ فأغفرَ له؟ هل من تائبٍ فأتوبَ عليه؟ حتى يطلعَ الفجرُ”.
هنيئًا لمن وفقه الله لقيام الليل وأحب رؤيته وسماع مناجاته في جوف الليل.

إقرأ أيضًا: دعاء شكر لله على الشفاء واهمية الدعاء بالشفاء من الأمراض

عزَّة المؤمن في استغناؤُهُ عنِ النَّاسِ

من أهم الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة، هو الاستغناء والعفاف، ولذلك كان يدعو به النبي – صلى الله عليه وسلم – كما ورد في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي قال: ” اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى” (وفي روايةٍ: وَالْعِفَّةَ) (أخرجه مسلم 2712).
هنا الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعلمنا بسؤال الله جوامع لأبواب الخير في الدنية والآخرة من الهدى والتقى دون التقيد وهذا يفتح الباب لعموم الدنيا والآخرة من مكارم الأخلاق والرزق والعمل للآخرة.

العفاف والغنى: وهنا موضع كلامنا أي العفاف حرم الله أن يتعلق به قلبه ويستغني بالله عنها؛ والغنى عما سوى الله (الاستغناء به) من خلق فلو رَزق الله الإنسان نعمة الاستغناء عمن دونه من خلقه صار أعز الناس في الأرض، فالحاجة إلى الناس مذلة ومهانة، والحاجة لله تعالى هي قمة الغنى والكرامة.

كما أن الحديث يشير إلى أن الله وحده هو النافع والضار والهادي لخلقه أجمعين.

وفي هذه الفضيلة قال الإمام الحسن البصري (من التابعين): ” لا يَزَالُ النَّاسُ يُكْرِمُونَكَ مَا لَمْ تتعَاطَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا فَعَلْتَ اسْتَخَفُّوا بِكَ، وَكَرِهُوا حَدِيثَكَ وَأَبْغَضُوكَ”
أي الناس سوف يعاملونك على أنك كريم نبيل ذو شرف بينما لا تأخذ منهم شيء ومستغني عنهم، هم من يحتاجون إليك؛ في اللحظة التي سوف تحتاج إليهم ستجد نفسك ثقيل الظل مكروه لا يحب أحد الجلوس معك ويتهرب منك البشر.

بذلك نكون قد تحدثنا عن مقولة احبب من شئت وأشرنا إلى مصدرها من الحديث الشريف ونقلنا لكم أقوال المحدثين في هذا الحديث وأصدق الروايات التي وصلتنا عنه وتناولنا بعض الدروس المستفادة من الحديث الشريف كما شرحه الفقهاء، نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الحديث القدسي: (هو الكلام الذي ينسب إلى الله وله قدسيته نزل على النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق ملك الوحي جبريل عليه السلام، ولكنه ليس من جنس القرآن فلا يصح التعبد بتلاوته ولا الصلاة به، فهو كلام الله تعالى معنى ولفظه فمن الرسول صلى الله عليه وسلم).

قد يعجبك أيضًا