خصائص الخطابة في العصر الجاهلي

الخطابة في العصر الجاهلي بلغت منزلة عظيمة فكان العرب يستخدمونها في كل المناسبات تقريبًا، فكانت تتبع الشعر في التقديم كما أن كل قبيلة تحتاج إلى شاعر يوثق مآثرها ويهجوا أعاديهم ويفخر بشرفهم ونسبهم، كانت كل قبيلة تحتاج إلى خطيب مفوه يخاطب جمهور القبيلة ليحمسهم لأمر ما، أو ليجمع كلمتهم في حالة الخلاف، كما أنه يتكلم باسم القبيلة في أي جمع للقبائل في شتى المجالات الحربية والاجتماعية والدينية.

الخطابة في العصر الجاهلي

في حديثه عن الخطابة يقول الدكتور عبد الجليل عبده شلبي في كتابه (الخطابة وإعداد الخطيب):

“أرخت قبل الإسلام المنازعات القبلية ولدهشة العربي التي بعثته على التأمل في الكون والدعوة للاعتبار بالأحداث والحقائق”.

لذا كان للخطابة عند العرب قبل الإسلام ضرورة اجتماعية، رغم أن أغلبها ضاع ولم يبقى لنا إلا خطب وجيزة يتم إلقائها ارتجالًا في مختلف المحافل والمناسبات.

برغم ذلك إن ما بقى لنا من متقطفات الخطب يعد تأريخًا لحاضرهم وماضيهم، وعصارة التجربة الفكرية للرجل العربي، لكنه لم يرقى لمنزلة الشعر ومكانته العليا عند العرب لأنه هو من يحمل اسم القبيلة في الأفق بين الناس.

لذا يقول أبو عمر بن العلاء: “كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم”.. فيصف حال العرب في التعامل بين الشاعر والخطيب.

علق الجاحظ أيضًا على هذا الموضوع وقال أن الشاعر أرفع منزلة عند العرب من الخطيب لكن بعدما كثر الشعراء وكثُر شعرهم أصبح الخطيب المفوه أعلى منزلة عند العرب، فكما يرى الجاحظ في كتابه “البيان والتبين” أن السبب الوحيد لأن يكون الخطيب أعلى منزلة من الشاعر هو أن الشعراء أصبح عددهم كبير وأصبحت المعاني مكررة ويذكرنا هنا قول عنترة بن شداد:

هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ

أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ

يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي

وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي

 

فأصبحت الخطب بين ليلة وضحاها من لوازم السادة ومن يتكلم بلسانهم في كل المحافل العظيمة للعرب والتجمعات الرسمية، فكانت تحلى بالحكم وتقترن بمعانٍ سامية مثل الشجاعة والكرم والفروسية، ونجد ذلك في المراثي ومدح القادة.

كما أن أتساع المساحة الوظيفية للخطابة هي ما أهلتها لمنزلة الصدارة.. فبجانب الأغراض القديمة المعتادة كان الخطيب ينافس الشاعر في الفخر والهجاء.

بجانب تفرد الخطباء بالدعوة إلى السلم ومحاولة إخماد نيران الحروب في الخصومات بين القبائل المتناحرة، والشعراء لم يدعوا إلا إلى الموت والدمار والحروب.

إقرأ أيضًا: شعر عربي قديم

أسباب الخطابة في العصر الجاهلي

لكل فن أدبي أو جنس ما من الإبداع دواعي لظهوره وتطوره وإلا لم يكن، كذلك هي الخطابة توفرت لها عدة أسباب جعلتها تلمع في المجتمع الجاهلي، أهم هذه الأسباب:

  • وجود مسارح كثيرة (ليس بالمعنى الحديث) يلتقي بها الخطباء وكلٍ يدلي بدلوه فجي التفاخر بالأنساب أو المعن السامية وبعض الأحيان كانوا يدخلون في نفار مع بعضهم البعض يتحول إلى سجال طويل يتكرر كل اجتماع.
  • كثرة الخصومات عند العرب والنزاعات، فإذا انتهت بحرب كان الخطيب مشجع ونفر للقتال، وإن جنحوا للسلم كان الخطيب هو من يلقي خطبة السلم وبث روح المودة بين القبيلتين، وإن تقاتل القبيلتين فالمنتصرة لها خطيب يفخر بالانتصار ويرثي الأبطال الذين قتلوا.
  • قرب إمارتي المناذرة والغساسنة والوفود التي تذهب عندهم كثيرًا تحتاج إلى خطيب يتحدث بلسانهم.
  • توسع مجال الخطابة وأصبح الخطيب هو نائب المتقدم للزواج ولابد من خطبة عند أهل الفتاة يعدد فيها خصال الخاطب الحميدة ونسبه وشرفه بجانب شجاعته بالطبع.

خصائص الخطابة في العصر الجاهلي

كانت الخطبة في العصر الجاهلي تمتاز عن باقي العصور المتأخرة بعدة خصائص أهمها:

  • استخدام الأسلوب السلس المرسل في المحافل العظيمة وخطب الصلح بين القبائل، لكن يقوم الخطيب بتطريز خطبته والتجويد فيها وتنقيحها، والتروي في إلقائها ليجذب المستمع ويثير انتباهه..
    قال أبو عمر بن العلاء: ” كانت العرب تطيل ليسمع منها، وتوجز ليحفظ عنها”.
  • قلة استخدام الصور البيانية في الخطبة.
  • البعد عن العبارات الطويلة وإيثار القصيرة منها.
  • تجميل الخطب بالحكم القديمة والأمثال الشهيرة.
  • تنويع الأسلوب بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي.
  • وضوح فكرة الخطبة بشكل عام.
  • سلامة اللغة وجزالة الألفاظ وجودة العبارات.
  • نهم الخطباء للسجع لكن غير المتكلف منه.
  • طول أو قصر الخطبة كان يعتمد على موضوع الخطبة ومقام إلقائها.

إقرأ أيضًَا: أجمل أبيات الشعر الجاهلي في الفخر

أشهر خطباء العصر الجاهلي

في اعصر الجاهلي ذاع صيت العديد من الخطباء لا يمكن حصرهم بالطبع نذكر منهم:

  • قس بن ساعدة الإيادي (قد أدرك الرسول – صلى الله عليه وسلم – وشهد له النبي بالفصاحة)
  • عتبة بن ربيعة.
  • ضمرة بن ضمرة.
  • عمرو بن كلثوم.
  • لبيد بن ربيعة
  • قيس بن خارجة بن سنان.
  • خويلد بن عمرو (الذي خطب يوم الفجار)
  • حنضلة بن ضرار (خطيب قبيلة بني ضّبة)
  • المخبل السعد.

وغيرهم الكثير تعددوا بتعدد القبائل والبطون.

أنواع الخطب الأدبية في العصر الجاهلي

بالطبع لم يكن يعرف العرب الأدب بالمعنى المعاصر لكنه كان له مكانته وأنواعه، وتعددت الأنواع بتعدد المناسبات والأغراض التي كانت تلقى فيها الخطبة؛ وأهم أنواع الخطبة هي:

  • الخطب الوعظية

هي الخطب التي يتم إلقائها بين القبائل في حالة السلم، وتلقى بعد الحروب أيضًا.. تعمل على جعل المستمع يفكر في مكارم الأخلاق، والتأمل في مجريات الأحداث الحياتية، يحاول الخطيب فيها أن يرشد قومه للتفكير في النهاية الحتمية للإنسان.

  • خطبة الزواج

كانت تمثل قمة تقدم الأمة العربية في الناحية الاجتماعية، تمثل صورة من صور التواصل الإنساني،
عبارة عن إعلان الخطيب محاسن ومناقب وأخلاق ونسب المتقدم للزواج ليتم قبوله من أهل الفتاة، وفي بعض الأحيان يخرج فرد من أهل العروس ويلقي خطبة قبول أو ترحيب بأهل الخاطب.

  • خطبة المفاخر

في بعض الأحيان تُسمى “خطبة المنافرات” والأثنين بنفس المعنى تقريبًا، وتعني المباهاة بمناقب القوم والنسب.
ومن خطب المنافرات خطبة المنافرة بين عامر بن طفيل وعلقمة بن علاث عندما كانا يتنازعان الرئاسة.

  • خطب التهنئة والتعزية

تكون خطبة التعزية بذكر مناقب الفقيد ومحامده، والتهنئة كانت في كل المناسبات السعيدة الكثيرة في حياة العرب.

  • خطبة الصُّلح

ندما تنتهي الحروب بين المتخاصمين بالصلح، كان يحين دور الخطيب ذو الرأي السديد، فيقضي على العداوة بين المتخاصمين ونشر السلام.
ومن أشهر الخطباء الذين ألقوا خطب في اسلم هو “أكثم بن صيفي”.

  • خطب الحرب

عندما كانت تغلب العصبية القبلية والنزاع بين القبائل على صوت العقل الرشيد كان يحين دور الخطيب الذي ينفر القوم ويشجعهم على القتال ويذكرهم بمفاخر قبيلتهم.. وفي بعض الاحيان كان الخطيب يذكر قومه بالقيم السامية والزهد في الحية والرغبة في الموت بشجاعة.

تقاليد الخطابة في العصر الجاهلي

كان هناك مجموعة من الأعراف التي اتبعها العرب في العصور القديمة عند إلقاء خطبهم وهي:

  • أن يعتلي الخطيب راحلته ليراه القريب والبعيد.
  • ارتداء العمامة الكبيرة التي تزيدهم وقارًا.
  • يستخدمون لغة الجسد الحركية والإشارة الموازنة مع الألفاظ.
  • يحملون العصارة والخاصرة أثناء الخطبة، وهذا قد عابه عليهم الشعوب الغير عربية في هذا الحين فرد الجاحظ عليهم في كتابه (البيان والتبين) بقوله: “إن حمل العصا والمخصرة دليل على التأهب للخطبة والتهيؤ للإطناب والإطالة.
    وذلك شيء خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم، حتى إنهم ليذهبون في حوائجهم، والمخاصر بأيديهم إلفًا لها، وتوقعًا لبعض ما يوجب حملها، والإشارة بها”.
  • كما أن العرب كانوا يمتدحون في الخطيب أن يكون جهوري الصوت ذو حجة قوية ذو بديهة حاضرة وحسن استدلال، وشخصيته قوية، وكثير الريق.. قادر على أقناع الناس وتغيير تفكيرهم.

وهذه السنن المنتشرة للخطابة كانت سببًا من أسباب أنتشار فن الخطابة ورواجه.

إقرأ أيضًا: شعر غزل جاهلي

نماذج من الخطابة في العصر الجاهلي

  • خطبة زواج الرسول – صلى الله عليه وسلم – في زواجه من السيدة خديجة التي ألقاها أبي طالب:

“الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع  إسماعيل، وضِئْضِىِء معدّ، وعنصر مُضَر، وجعلنا حَضَنَة بيته، وسُوَّاسَ حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجاً وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به، فإن كان في قُلٍّ؛ فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمدٌ مَن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها الصداق ما آجله وعاجله من مالي، وهو بعد هذا والله له نبأ عظيم وخطر جليل”.

  • خطبة كعب بن لؤي الذي مات قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بنحو 560 عام، أوردها ابن كثير في تاريخه، فقد كان كعب ابن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة – كان اسمها حينئذ العَرُوبَة – ويخطب فيهم وهو أول من بدا خطبته بقول (أما بعد) ومن خطبه:
    “أما بعد: فاسمعوا وتعلموا، وافهموا واعلموا، ليل ساج، ونهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، والأنثى والذكر، والروح وما يهيج إلي بِلي، فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمّروا أموالكم، فهل رأيتم من هالك رجع؟ أو ميت نُشر؟ الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، حَرَمُكم زيِّنوه وعظِّموه، وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، ثم يقول:

 

نهار وليل كل يوم بحادث

سواء علينا ليلها ونهارها

 

يؤوبان بالأحداث حتى تأوّبا

وبالنعم الضافي علينا ستورها

 

على غفلة يأتي النبي محمد

فيخبر أخبارًا صدوق خبيرها

 

ثم يردف ابن كثير باقي الخطبة:

“والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر، ويد ورجل؛ لتنصَّبتُ فيها تنصُّب الجمل، ولأرْقلتُ ها إرقال العَجِلِ

ياليتني شاهدا نجواء دعوته ***حين العشيرة تبغي الحق خذلانا”.

ونلاحظ أن كعب بن لؤي يقتبس من الشعر في خطبه كما أنه كان متأثر بأفكار أهل الكتاب الذين يعرفون وصف النبي – صلى الله عليه وسلم في كتبهم..

  • خطبة هانئ بن قصيبة في يوم ذي قار، حين كان يشجع قومه ويحرضهم على القتال:
    “يَا مَعْشرَ بكْرٍ، هالِكٌ مَعْذورٌ، خير، مِنْ ناجٍ فرور، إنّ الحذَر لا يُنجي من القَدَرِ، وإنّ الصّبْرَ مِنْ أسْبَابِ الظّفرِ، النيّة ولا الدَّنيّةُ، استقبالُ الموتِ خير مِنْ استِدبَاره، الطَّعْنُ في ثُغَرِ النُّحُورِ، أكْرَم منه في الأعْجَازِ والظهورِ، يا آل بكر، قَاتِلُوا فَمَا للمنَايَا مِنْ بُدّ”.

في هذه الخطبة يوضح مدى بطولة قومه واحتقارهم للحياة في جحيم الذل، ويوضح كم هو الموت في ساحة الحرب هو الموت بعزة، ويصف الموت باستقبال الرماح دليل على الشجاعة، وأردف يسرد حكم من رجل خبير كل ذلك في أسلوب سلس منسق يصل للعقول بسهولة.

هذا ما يمكننا أن نقول بإيجاز حول موضوع الخطابة في العصر الجاهلي.. من خصائصها، وأشهر الخطباء، وتقاليد اتبعها الخطباء، ونماذج من الخطب في العصر الجاهلي.. نرجو أن نكون قد أفدناكم.

 

المراجع

  • (أشكال الخطاب الفني النثري في العصر الجاهلي) حسين على هنداوي
  • (الخطابة. تاريخها في أزهر عصورها) محمد أبو زهرة
  • (الأدب الجاهلي) غازي طليمات
  • (البيان والتبين) الجاحظ عمرو بن بحر
  • (تاريخ الأدب الجاهلي) الدكتور/ علي الجندي العلّامة بكلية دار العلوم.
قد يعجبك أيضًا