كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل المعنى والتفسير

كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل، كلمات سمعناها وترددت على آذاننا كثيرًا، ولكننا لم نزل لا ندرك معناها حتى الآن، فقد يظن بعضنا أن هذه الجملة تقتصر على من عمل عملًا فاسدًا فقط، ولكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، فالعبد يجازى أيضًا بإحسانه إلى غيره، فمن أحسن إلى الناس أحسن الله إليه كما قال -تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)، فمن عمل عملًا قبيحًا تجاه شخص آخر فالله سيرده إليه، ومن عمل عملًا حسنًا فالله يرده إليه أضعافًا مضاعفة.

في هذا المقال سنعرف معنى جملة كما تدين تدان وهل لها أصل في السنة أم لا؟

كما تدين تدان

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: “البِرُّ لا يَبْلى، والإثمُ لا يُنسى، والدَّيَّانُ لا يموتُ، فكُنْ كما شِئتَ، كما تَدينُ تُدان‎”، وهذا الحديث ضعيف السند أي أنه لم تتوفر فيه شروط القبول التي وضعها المحدثون، فقد يكون هناك ضعف في راوي الحديث بمعنى أنه قد يكون كاذبًا أو ما شابه.
وأعلى درجة وصل إليها هذا الحديث من السند هي المرسل، حيث أخرجه بعض المحدثين مثل البيهقي والقسطلاني والحافظ بن حجر بإسناد مرسل، والحديث المرسل هو من سقط راوي من رواته، بمعني أن الحديث يكون مرويًا من فلانٍ عن فلانٍ عن فلانٍ عن فلان حتى يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سقط راوي من هؤلاء الرواة فيعتبر الحديث مرسلًا وهي درجة من درجات ضعف الحديث ولكنها أقوى درجة من الحديث الضعيف.

إلا أن هناك بعض الأحاديث الضعيفة أو المرسلة قد تكون ضعيفة في السند صحيحة في المعنى كهذا الحديث، فهذا الحديث يؤكد صفة العدل التي يتصف بها رب العزة -سبحانه وتعالى-، فقد قال الله -تعالى-: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)، فيكون المعنى المعكوس لهذه الآية أن من اقترف سيئة في حق آخر فسينال جزاءها عاجلًا أو آجلًا.

وهناك أيضًا آيات قرآنية تدل على ذات معنى هذا الحديث ومنها:-

  • قوله -تعالى-: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فمن تفاسير هذه الآية أن من يقترف سيئة في حق غيره سيجازيه الله بها وإن طال الأمد.
  • قوله -تعالى-: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) فالله لا يجازي أحدًا بغير عمله، ففي يوم القيامة توزع كتب أعمال العباد عليهم فكلٌ منهم يأخذ كتابه ويرى أعماله، كلها ويأخذ جزاءها يوم الحساب.

إقرأ أيضًا: من هو أفصح العرب؟ وما هى شروط الفصاحة في الكلام

تفسير حديث: كما تدين تدان

في هذه الفقرة سنبدأ بتفسير هذا الحديث كلمة بكلمة حتى يتوصل القارئ لأقصى استفادة ممكنة.

  • (البِرُّ): وهو مسمى يطلق على جميع خصال الخير وأعماله، وأعمال البر كثيرة كحسن الخلق والتبسم في وجوه الآخرين ومعاملتهم بالحسنى وما إلى ذلك.
  • (لا يَبْلًى): يعني لا ينفذ أبدًا ولا ينتهي وإن طال الزمان، فإذا عمل الإنسان عملًا فيه بر فلا يضيع أجره لا في الدنيا ولا في الآخرة، فيجازيه الله في الدنيا بأن يرد له معروفه عن طريق توفيقه إلى ما يريد أو تسخير الأمور له وتسهيلها أو بإبعاد الشر عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “صَنائِعُ المَعْرُوفُ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ”، ويجازيه في الآخرة بالثواب العظيم الذي قد يصل إلى دخول جنة رب العالمين، على شرط أن يفعل الإنسان المعروف يبتغي به وجه الله فقط لا لكي يُردّ إليه هذا المعروف فيما بعد أو لكي يقول عنه الناس أنه صاحب معروف أو ما شابه، فهذا ليس من المعروف في شيء، فعند الله أجر أعظم من أجر ما سواه فقد قال -تعالى-: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ).
  • (الإثم): يقول النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الإثم: ” الإثمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهتَ أَن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ”، فكما أن البر يجمع في طياته كل الخير، فالإثم يحمل في طياته كل شر ومكروه للإنسان.
  • (لا ينسى): فكما أن البر أيضًا لا ينساه الله لك فيجازيك به في الدنيا والآخرة، فإن الإثم لا يمر مرور الكرام أيضًا، فالإثم له جزاءُه أيضًا في الدنيا والآخرة فقد قال الله -تعالى-:(والذين كَسَبُواْ السيّئات جَزَاءُ سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا)، فلا يزيل هم الإثم عن صدرك إلا العودة إلى الله بالتوبة ورد المظالم والعزم على عدم إيذاء من حولك من الناس.
  • (الديَّان): ومعناها صاحب القرض من المال، فمن اقترض قرضًا من أحدٍ فيسمى المُقرض ديّانًا والمقترض مدينًا، وهكذا هو الحال مع صاحب البر، فهو يتاجر مع الله لا مع سواه، فهو يفعل الخير اليوم ليرده له رب العالمين أضعافًا مضاعفة غدًا كما قال -تعالى-: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)، فهذا هو حال من يتاجر مع الله فهو لا يخسر أبدًا.
  • (لا يموت): فكما هو معلوم أن وجود الله أزلي لا ينتهي، فقد قال الله -تعالى- في كتابه: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) والسِّنةُ هي مجرد الغفلة والنعاس القليل، فأولى بمن لا يعتريه مجرد الغفلة والنعاس أن يكون باقيًا للأبد.
  • (فكن كما شئت): فالإنسان مخيَّر غير مسيَّر، وإنما جعلت هذه الأحكام والشرائع لإرشاد الإنسان إلى ما هو خير له لا غير، ولكن حق الاختيار متروكٌ له بين طريقي الصواب والضلال.
  • (كما تدين تُدان): فكما قلنا أن كل ما تفعله ستأخذ جزاءه إما في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معًا.

إقرأ أيضًا: الرضا عن الله الفرق بينه وبين رضا الله عن العبد

إقرأ أيضًا: أذكار قبل النوم وفضل الذكر قبل النوم

أحاديث وردت بها جملة: كما تدين تدان

  • في رواية أنس بن مالك –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ موسَى بنَ عِمرانَ عليه السَّلامُ كان يمشي ذاتَ يومٍ في الطَّريقِ، فناداه الجبَّارُ جلَّ جلالُه: يا موسَى! فالتفَت يمينًا وشمالًا، فلم يجِدْ أحدًا، ثمَّ ناداه الثَّانيةَ: يا موسَى بنَ عِمرانَ! فالتفَت يمينًا وشمالًا، فلم يجِدْ أحدًا، ثمَّ ارتعدت فرائصُه، ثمَّ نُودِي الثَّالثةَ: يا موسَى بنَ عمرانَ! أنا اللهُ لا إلهَ إلَّا أنا، فقال: لبَّيك لبَّيك، فخرَّ للهِ ساجدًا، فقال: ارفَعْ رأسَك يا موسَى بنَ عمرانَ! فرفع رأسَه، فقال: يا موسَى! إن أحببتَ أن تسكُنَ في ظلِّ عرشي يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلِّي، يا موسَى! كُنْ لليتيمِ كالأبِ الرَّحيمِ، وكُنْ للأرملةِ كالزَّوجِ العَصوبِ، يا موسَى بنَ عمرانَ! ارحَمْ تُرحَمْ، يا موسَى! كما تُدينُ تُدانُ، يا موسَى بنَ عمرانَ! نبِّئْ بني إسرائيلَ أنَّه من لَقيني وهو جاحدٌ لمحمَّدٍ أدخلتُه النَّارَ، ولو كان إبراهيمُ خليلي وموسَى كليمي، قال: ومن محمَّدٌ؟ قال: يا موسَى! وعزَّتي وجلالي ما خلقتُ خلقًا أكرمَ عليَّ منه، كتبتُ اسمَه مع اسمي في العرشِ، قبل أن أخلقَ السَّماواتِ والأرضَ والشَّمسَ والقمرَ بألفَيْ سنة، وعزَّتي وجلالي إنَّ الجنَّةَ محرَّمةٌ على جميعِ خلقي حتَّى يدخلَها محمَّدٌ وأمَّتُه، قال موسَى: ومن أمَّةُ محمَّدٍ؟، قال: أمَّتُه الحمّادُون يحمَدون اللهَ صُعودًا وهبوطًا، وعلى كلِّ حالٍ، يشُدُّون أوساطَهم، ويطهِّرون أطرافَهم، صائمون بالنَّهارِ، رهبانٌ باللَّيلِ، أقبلُ منهم اليسيرَ، وأُدخِلُهم الجنَّةَ بشهادةِ لا إلهَ إلَّا اللهُ، قال: فاجعَلْني نبيَّ تلك الأمَّةِ، قال: نبيُّها منها، قال: اجعَلْني من أمَّةِ ذلك النَّبيِّ، قال: استُقدمتَ واستأخروا يا موسَى، ولكن سأجمعُ بينك وبينه في دارِ الجلالِ”.

وهو حديثٌ غريب من حيث السند، والغريب هو ما رواه راوٍ واحد فقط لا غير.

إلى نكون قد شرحنا أصل جملة كما تدين تدان وفصّلنا معانيها كلها، ونتمنى أن يكون هذا التفصيل مفيدًا لمن يقرأه ويفهمه جيدًا.

قد يعجبك أيضًا